سورة النحل - تفسير تفسير الخازن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


قوله سبحانه وتعالى: {أتى أمر الله} يعني جاء ودنا وقرب أمر الله تقول العرب: أتاك الأمر وهو متوقع المجيء، بعدما أتى، ومعنى الآية أتى أمر الله وعداً {فلا تستعجلوه} يعني وقوعاً بالمراد به مجيء القيامة. قال ابن عباس: لما نزل قوله سبحانه وتعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} قال الكفار: بعضهم لبعض إن هذا الرجل يزعم أن القيامة قد قربت فامسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ما هو كائن، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا: ما نرى شيئاً فنزل قوله تعالى: {اقترب للناس حسابهم} فأشفقوا فلما امتدت الأيام، قالوا: يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوفنا به فنزل {أتى أمر الله} فوثب النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم، وظنوا أنها قد أتت حقيقة فنزل {فلا تستعجلوه} فاطمأنوا، والاستعجال طلب مجيء الشيء قبل وقته ولما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين ويشير بأصبعيه يمدهما» أخرجاه في الصحيحين من حديث سهل بن سعد.
(ق) عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين كفضل إحداهما على الأخرى، وضم السبابة إلى الوسطى» وفي رواية «بعثت في نفس الساعة فسبقتها كفضل هذه على الأخرى» قال ابن عباس: كان مبعث النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة ولما مر جبريل بأهل السموات مبعوثاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: الله أكبر قامت الساعة قال قوم: المراد بالأمر هنا عقوبة المكذبين وهو العذاب بالقتل بالسيف وذلك أن النضر بن الحرث قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فاستعجل العذاب فنزلت هذه الآية، وقلت النضر يوم بدر صبراً {سبحانه وتعالى عما يشركون} يعني تنزه الله وتعاظم بالأوصاف الحميدة عما يصفه به المشركون. قوله سبحانه وتعالى: {ينزل الملائكة والروح} يعني بالوحي {من أمره} وإنما سمي الأمر روحاً لأنه تحيا القلوب من موت الجهالات وقال عطاء: بالنبوة. وقال قتادة: بالرحمة. وقيل: الروح هون جبريل والباء بمعنى مع يعني ينزل مع الروح وهون جبريل {على من يشاء من عباده} يعني على من يصطفيه من عباده للنبوة، والرسالة وتبليغ الوحي إلى الخلق {أن أنذروا} يعني بأن اعلموا {أنه لا إله إلا أنا فاتقون} أي فخافون. وقيل: معناه مروا بقول لا إله إلا الله منذرين يعني مخوفين بالقرآن.


{خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون} تقدم تفسيره {خلق الإنسان من نطفة فاذا هو خصيم مبين} يعني أنه جدل بالباطل بين الخصومة نزلت في أبيّ بن خلف الجمحي، وكان ينكر البعث فجاء بعظم رميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تزعم أن الله يحيي هذا بعدما رم فنزلت فيه هذه الآية، ونزل فيه أيضاً قوله تعالى: {قال من يحيي العظام وهي رميم} والصحيح أن الآية عامة في كل ما يقع من الخصومة في الدنيا ويوم القيامة، وحملها على العموم أولى، وفيها بيان القدرة وأن الله خلق الإنسان من نطفة قذرة فصار جباراً كثيراً لخصومة، وفيه كشف قبيح ما فعله الكفار من جحدهم نعم الله تعالى مع ظهورها عليهم. قوله عز وجل: {والأنعام خلقها} لما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه خلق السموات والأرض، ثم أتبعه بذكر خلق الإنسان، ذكر بعده ما ينتفع به في سائر ضروراته. ولما كان أعظم ضرورات الإنسان إلى الأكل واللباس اللذين يقوم بهما بدن الإنسان بدأ بذكر الحيوان المنتفع به في ذلك، وهو الأنعام. فقال تعالى: {والأنعام خلقها} وهي الإبل والبقر والغنم. قال الواحدي: تم الكلام عند قوله والأنعام خلقها. ثم ابتدأ فقال تعالى: {لكم فيها دفء} قال: ويجوز أيضاً أن يكون تمام الكلام عند قوله لكم ثم ابتدأ فقال تعالى: {فيها دفء}.
قال صاحب النظم أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله خلقها ثم يبتدأ بقوله لكم فيها دفء، والدليل عليه أنه عطف عليه قوله، ولكم فيها جمال والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال. ولما كانت منافع هذه الأنعام منها ضرورية، ومنها غير ضرورية، بدأ الله سبحانه وتعالى بذكر المنافع الضرورية، فقال تعالى: {لكم فيها دفء} وهو ما يُستدفأ به من اللباس والأكسية ونحوها، المتخذة من الأصواف والأوبار والأشعار الحاصلة من النعم {ومنافع} يعني النسل والدر والركوب والحمل عليها وسائر ما ينتفع به من الأنعام {ومنها تأكلون} يعني من لحومها. فإن قلت: قوله تعالى: {ومنها تأكلون} يفيد الحصر لأن تقديم الظرف مؤذن بالاختصاص، وقد يؤكل من غيرها. قلت: الأكل من هذه الأنعام هو الذي يعتمده الناس في معايشهم وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط والإوز وصيد البر والبحر، فغير معتد به في الأغلب: وأكله يجري مجرى التفكه به فخرج ومنها تأكلون مخرج الأغلب في الأكل من هذه الأنعام. فإن قلت: منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللباس فلم أخر منفعة الأكل وقدم منفعة اللباس؟ قلت: منفعة اللباس أكثر وأعظم من منفعة الأكل فلهذا قدم على الأكل. وقوله سبحانه وتعالى: {ولكم فيها} أي في الأنعام {جمال} أي زينة {حين تريحون وحين تسرحون} الإراحة رد الإبل بالعشي إلى مراحلها حيث تأوي إليه بالليل.
وقال: سرح القوم إبلهم تسريحاً إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى. قال أهل اللغة: وأكثر ما تكون هذه الراحة أيام الربيع إذا سقط الغيث، ونبت العشب والكلأ وخرجت العرب للنجعة، وأحسن ما تكون النعم في ذلك الوقت فمن الله سبحانه وتعالى بالتجميل بها فيه كما من الانتفاع بها لأنه من أغراض أصحاب المواشي بل هو من معظمها لأن الرعاة إذا سرحوا النعم بالغداة إلى المرعى، وروحوها بالعشي إلى الأفنية والبيوت يسمع للإبل رغاء وللشاء ثغاء يجاوب بعضها بعضاً، فعند ذلك يفرح أربابها بها وتتجمل بها الأفنية والبيوت، ويعظم وقعها عند الناس. فإن قلت: لم قدمت الإراحة على التسريح؟ قلت: لأن الجمال في الإراحة وهو رجوعها إلى البيوت أكثر منها وقت التسريح لأن النعم تقبل من المرعى ملأى البطون حافلة الضروع، فيفرح أهلها بها بخلاف تسريحها إلى المرعى فإنها تخرج جائعة البطون ضامرة الضروع من اللبن، ثم تأخذ في التفرق والانتشار للرعي في البرية فثبت بهذا البيان أن التجمل في الإراحة، أكثر منه في التسريح فوجب تقديمه. وقوله سبحانه وتعالى: {وتحمل أثقالكم} الأثقال جمع ثقل وهو متاع السفر وما يحتاج إليه من آلات السفر {إلى بلد} يعني غير بلدكم قال ابن عباس: يريد من مكة إلى اليمن، وإلى الشام وإنما قال ابن عباس: هذا القول لأنه خطاب لأهل مكة واكثر تجارتهم وأسفارهم إلى الشام واليمن وحمله على العموم أولى لأنه خطاب عام فدخول الكافة فيه أولى من تخصيصه ببعض المخاطبين {لم تكونوا بالغيه} يعني بالغي ذلك البلد الذي تقصدونه {إلا بشق الأنفس} يعني بالمشقة والجهد والعناء والتعب والشق نصف الشيء، والمعنى على هذا لم تكونوا بالغيه إلا بنقصان قوة، النفس وذهاب نصفها {إن ربكم لرؤوف رحيم} يعني بخلقه حيث خلق لهم هذه المنافع. قوله سبحانه وتعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها} هذه الآية عطف على ما قبلها، والمعنى وخلق هذه الحيوانات لأجل أن تركبوها، والخيل اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والرهط والنساء {وزينة} يعني وجعلها زينة مع المنافع التي فيها.

فصل:
احتج بهذه الآية من يرى تحريم لحوم الخيل، وهو قول ابن عباس وتلا هذه الآية وقال: هذه للركوب وإليه ذهب الحكم ومالك وأبو حنيفة رحمهم الله، واستدلوا أيضاً بأن منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب فلما لم يذكره الله تعالى، علمنا تحريم أكله فلو كان أكل لحوم الخيل جائزاً لكان هذا المعنى أولى بالذكر، لأن الله سبحانه وتعالى خص الأنعام بالأكل حيث قال ومنها تأكلون وخص هذه بالركوب. فقال: لتركبوها فعلمنا أنها مخلوقة للركوب لا للأكل وذهب مجموعة من أهل العلم إلى إباحة لحوم الخيل، وهو قول الحسن وشريح وعطاء وسعيد بن جبير: وإليه ذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه وأحمد وإسحاق واحتجوا على إباحة لحوم الخيل لما روي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت: «نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً ونحن بالمدينة فأكلناه» أخرجه البخاري ومسلم.
(ق) عن جابر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الخيل وحمر الوحش ونهى النبي عن الحمار الأهلي» هذه رواية البخاري ومسلم، وفي رواية أبي داود قال: «ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير وكنا قد أصابتنا مخمصة فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل» وأجاب من أباح لحوم الخيل عن هذه الآية بأن ذكر الركوب والزينة، لا يدل على أن منفعتها مختصة بذلك، وإنما خص هاتان المنفعتان بالذكر لأنهما معظم المقصود، قالوا: ولهذا سكت عن حمل الأثقال على الخيل مع قوله في الأنعام وتحمل أثقالكم، ولم يلزم من هذا التحريم حمل الأثقال على الخيل، وقال البغوي: ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم، بل المراد منها تعريف الله عباده نعمه، وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته، والدليل الصحيح المعتمد عليه في إباحة لحوم الخيل أن السنة مبينة للكتاب ولما كان نص الآية يقتضي أن الخيل والبغال والحمير مخلوقة للركوب والزينة، وكان الأكل مسكوتاً عنه دار الأمر فيه على الإباحة والتحريم فوردت بإباحة لحوم الخيل وتحريم لحوم البغال والحمير، فأخذنا بها جمعاً بين النصين والله أعلم وقوله تعالى: {ويخلق ما لا تعلمون} لما ذكر الله سبحانه وتعالى الحيوانات التي ينتفع بها الإنسان في جميع حالاته، وضرورياته على سبيل التفضيل، ذكر بعدها ما لا ينتفع به الإنسان الغالب على سبيل الإجمال لأن مخلوقات الله عز وجل في البر والبحر والسموات أكثر من أن تحصى أو يحيط بها عقل أحد أو فهمه، فلهذا ذكرها على الإجمال، وقال بعضهم: ويخلق ما لا تعلمون يعني مما أعد الله لأهل الجنة في الجنة، ولأهل النار في النار مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر وقال قتادة في قوله: {ويخلق ما لا تعلمون} يعني السوس في النبات والدود في الفواكة. قوله سبحانه وتعالى: {وعلى الله قصد السبيل} القصد استقامة الطريق، يقال: طريق قصد وقاصد إذا أداك إلى مطلوبك وفي الآية حذف تقديره وعلى الله بيان قصد السبيل، وهو بيان طريق الهدى من الضلالة وقيل: معناه وعلى الله بيان طريق الحق بالآيات والبراهين {ومنها جائر} يعني ومن السبل سبيل جائر عن الاستقامة بل هو معوج فالقصد من السبيل هو دين الإسلام والجائر منها دين اليهودية والنصرانية وسائر ملل الكفر، وقال جابر بن عبد الله: قصد السبيل بيان الشرائع والفرائض، وقال عبد الله بن المبارك وسهل بن عبد الله: قصد السبيل السنة ومنها جائر الأهواء والبدع {ولو شاء لهداكم أجمعين} فيه دليل على أن الله تعالى ما شاء هداية الكفار، وما أراد منهم الإيمان لأن كلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فقوله ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين وذلك يفيد أنه تعالى ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هداهم.
قوله عز وجل: {وهو الذي أنزل من السماء ماء} لما ذكر الله سبحانه وتعالى نعمته على عباده بخلق الحيوانات لأجل الانتفاع والزينة: عقبه بذكر إنزال المطر من السماء، وهو من أعظم النعم على العباد فقال: هو الذي أنزل من السماء. يعني، والله الذي خلق جميع الأشياء هو الذي أنزل من السماء ماء يعني المطر {لكم منه} يعني من ذلك الماء {شراب} يعني تشربونه {ومنه} يعني ومن ذلك الماء {شجر} الشجر في اللغة ما له ساق من نبات الأرض، ونقل الواحدي عن أهل اللغة أنهم قالوا: الشجر أصناف ما جل وعظم وهو الذي يبقى على الشتاء وما دق وهو صنفان أحدهما تبقى له أدوحة في الشتاء وينبت في الربيع ومنها ما لا يبقى له ساق في الشتاء كالبقول وقال أبو إسحاق: كل ما ينبت على وجه الأرض فهو شجر وأنشد:
نطعمها اللحم إذا عز الشجر ***
أراد أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض، وقال ابن قتيبة: في هذه الآية يعني الكلأ ومعنى الآية أنه ينبت بالماء الذي أنزل من السماء ما ترعى الراعية من ورق الشجر لأن الإبل ترعى كل الشجر {فيه} يعني في الشجر {تسيمون} يعني ترعون مواشيكم. يقال: أسمت السائمة إذا خليتها ترعى وسامت هي إذا رعت حيث شاءت {ينبت لكم} أي ينبت الله لكم وقرئ ينبت على التعظيم لكم {به} أي بذلك الماء {الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات} لما ذكر الله في الحيوان تفصيلاً وإجمالاً ذكر الثمار تفصيلاً وإجمالاً فبدأ بذكر الزرع وهو الحب الذي يقتات به كالحنطة والشعير وما أشبههما لأن به قوام بدن الإنسان، وثنى بذكر الزيتون لما فيه من الأدم والدهن والبركة، وثلث بذكر النخيل لأن ثمرتها غذاء وفاكهة، وختم بذكر الأعناب لأنها شبه النخلة في المنفعة من التفكة، والتعذية، ثم ذكر سائر الثمرات إجمالاً لينبه بذلك على عظيم قدرته، وجزيل نعمته على عباده ثم قال تعالى: {إن في ذلك} يعني الذي ذكر من أنواع الثمار {لآية} يعني علامة دالة على قدرتنا ووحدانيتنا {لقوم يتفكرون} يعني فيما ذكر من دلائل قدرته ووحدانيته {وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم} تقدم تفسيره في سورة الأعراف {مسخرات} يعني مذللات مقهورات تحت قهره وإرادتهن وفيه رد على الفلاسفة والمنجمين لأنهم يعتقدون أن هذه النجوم هي الفعالة المتصرفة في العالم السفلي فأخبر الله تعالى أن هذه النجوم مسخرات في نفسها مذللات {بأمره} يعني بأمر ربها مقهورات تحت قهره يصرفها كيف يشاء، ويختار وأنها ليس لها تصرف في نفسها فضلاً عن غيرها، ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه خلق هذه النجوم وجعلها مسخرات لمنافع عباده ختم هذه الآية بقوله: {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} يعني أن كل من كان له عقل صحيح سليم علم أن الله سبحانه وتعالى، هو الفعال المختار وأن جميع الخلق تحت قدرته، وقهره وتسخيره لما أراده منهم.


{وما ذرأ لكم في الأرض} يعني وما خلق لكم في الأرض، وسخر لأجلكم من الدواب والأنعام والأشجار والثمار {مختلفاً ألوانه} يعني في الخلقة والهيئة والكيفية واختلاف ألوان المخلوقات مع كثرتها، حتى لا يشبه بعضها بعضاً من كل الوجوه، فيه دليل قاطع على كمال قدرة الله ولذلك ختم هذه الآية بقوله تعالى: {وهو الذي سخر لكم البحر} لما ذكر الله سبحانه وتعالى الدلائل الدالة على قدرته، ووحدانيته من خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان من نطفة وخلق سائر الحيوان والنبات وتسخير الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من آثار قدرته، وعجائب صنعته وذكر إنعامه في ذلك على عباده، ذكر بعد ذلك إنعامه على عباده بتسخير البحر لهم نعمة من الله عليهم، ومعنى تسخير الله البحر لعباده جعله بحيث يتمكن الناس من الانتفاع به. فقال تعالى: {وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً} فبدأ بذكر الأكل لأنه أعظم المقصود، لأن به قوام البدن وفي ذكر الطري مزيد فائدة دالة على كمال قدرة الله تعالى، وذلك أن السمك لون كان كله مالحاً لما عرف به من قدرة الله تعالى، ما يعرف بالطري لأنه لما لما خرج من البحر الملح الزعاق، الحيوان الطري الذي لحمه في غاية العذوبة علم أنه إنما حدث بقدرة الله، وخلقه لا بحسب الطبع وعلم بذلك أن الله قادر على إخراج الضد من الضد. المنفعة الثانية قوله تعالى: {وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} يعني اللؤلؤ والمرجان، كما قال تعالى: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} والمراد بلبسهم لبس نسائهم لأن زينة النساء بالحلي، وإنما هو لأجل الرجال فكان ذلك زينة لهم. المنفعة الثالثة قوله تعالى: {وترى الفلك} يعني السفن {مواخر فيه} يعني جواري فيه قال قتادة: مقبلة ومدبرة وذلك أنك ترى سفينتين أحداهما تقبل والأخرى تدبر تجريان بريح واحدة وأصل المخر في اللغة الشق يقال: مخرت السفينة مخراً إذا شقت الماء بجؤجؤها. وقال مجاهد: تمخر الرياح السفن يعني أنها إذا جرت يسمع لها صوت قال أبو عبيدة: يعني من صوائح والمخر صوت هبوب الريح عند شدتها وقال الحسن: مواخر يعني مواقر أي مملوءة متاعاً {ولتبتغوا من فضله} يعني الأرباح بالتجارة في البحر {ولعلكم تشكرون} يعني إنعام الله عليكم إذا رأيتم نعم الله فيما سخر لكم {وألقى في الأرض رواسي} يعني جبالاً ثقالاً {أن تميد بكم} يعني لئلا تميل وتضطرب بكم، والميد هو اضطراب الشيء العظيم كالأرض، وقال وهب: لما خلق الله سبحانه وتعالى الأرض جعلت تمور وتتحرك فقالت الملائكة: إن هذه غير مقرة أحداً على ظهرها فأصبحوا، وقد أرسيت بالجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال {وأنهاراً} يعني وجعل فيها أنهاراً لأن في ألقى معنى الجعل، فقوله سبحانه وتعالى: {وأنهاراً} معطوف على وألقى، ولما ذكر الله الجبال ذكر بعدها الأنهار لأن معظم عيون الأنهار، وأصولها تكون من الجبال {وسبلاً} يعني وجعل فيها طرقاً مختلفة تسلكونها في أسفاركم، والتردد في حوائجكم من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان {لعلكم تهتدون} يعني بتلك السبل إلى ما تريدون فلا تضلون {وعلامات} يعني وجعل فيها علامات تهتدون بها في أسفاركم قال بعضهم: تم الكلام عند قوله: {وعلامات} ثم ابتدأ {وبالنجم هم يهتدون} قال محمد بن كعب والكلبي: أراد بالعلامات الجبال والنجوم، فالجبال علامات النهار، والنجوم علامات الليل.
وقال مجاهد: أراد بالكل النجوم فمنها ما يكون علامات ومنها ما يهتدي به. وقال السدي: أراد بالنجم الثريا وبنات نعش والفرقدين والجدي، فهذه يهتدى بها إلى الطريق والقبلة. وقال قتادة: إنما خلق الله النجوم لثلاثة أشياء لتكون زينة السماء ومعالم الطريق ورجوماً للشياطين فمن قال غير هذا فقد تكلف ما لا علم له به. قوله سبحانه وتعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} لما ذكر الله عز وجل من عجائب قدرته وغرائب صنعته، وبديع خلقه ما ذكر على الوجه الأحسن والترتيب الأكمل، وكانت هذه الأشياء المخلوقة المذكورة في الآيات المتقدمة كلها دالة على كمال قدرة الله تعالى، ووحدانيته وأنه تعالى هو المنفرد بخلقها جمعياً قال على سبيل الإنكار على من ترك عبادته واشتغل بعبادة هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تقدر على شيء {أفمن يخلق} يعني هذه الأشياء الموجودة المرئية بالعيان، وهو الله تعالى الخالق لها {كمن لا يخلق} يعني هذه الأصنام العاجزة التي لا تخلق شيئاً البتة، لأنها جمادات لا تقدر على شيء، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادتها ويترك عبادة من يستحق العبادة وهو الله خالق هذه الأشياء كلها، ولهذا المعنى ختم هذه الآية بقوله: {أفلا تذكرون} يعني أن هذا القدر ظاهر غير خافٍ على أحد فلا يحتاج فيه إلى دقيق الفكر والنظر بل مجرد التذكر فيه، كفاية لمن فهم وعقل واعتبر بما ذكره. بقي في الآية سؤلان: الأول: قوله: {كمن لا يخلق} المراد به الأصنام وهي جمادات لا تعقل فكيف يعبر عنها بلفظة من وهي لمن يعقل، والجواب عنه أن الكفار لما سموا هذه الأصنام آلة وعبد وها أجريت مجرى من يعقل في زعمهم ألا ترى إلى قوله بعد هذا: {والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً} فخاطبهم على قدر زعمهم، وعقولهم. السؤال الثاني: قوله: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} المقصود منه إلزام الحجة على من عبد الأصنام حيث جعل غير الخالق مثل الخالق، فكيف قال على سبيل الاستفهام أفمن يخلق كمن لا يخلق والجواب عنه أنه ليس المراد منه الاستفهام بل المراد منه أن من خلق الأشياء العظيمة وأعطى هذه النعم الجزيلة، كيف يسوى بينه وبين هذه الجمادات الخسيسة في التسمية والعبادة، وكيف يليق بالعاقل أن يترك عبادة من يستحق العبادة لأنه خالق هذه الأشياء الظاهرة كلها، ويشتغل بعبادة جمادات لا يخلق شيئاً البتة والله أعلم.
وقوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} يعني أن نعم الله على العبد فيما خلق الله فيه من صحة البدن وعافية الجسم، وإعطاء النظر الصحيح والعقل السليم، والسمع الذي يفهم به الأشياء وبطش اليدين وسعي الرجلين إلى غير ذلك مما أنعم به عليه في نفسه، وفيما أنعم به عليه مما خلق له من جميع ما يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا لا تحصى حتى لو رام أحد معرفة أدنى نعمة من هذه النعم لعجز عن معرفتها وحصرها فكيف بنعمة العظام التي لا يمكن الوصول إلى حصرها لجميع الخلق فذلك قوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} يعني ولو اجتهدتم في ذلك وأتبعتم نفوسكم لا تقدرون عليه {إن الله لغفور} يعين لتقصيركم في القيام بشكر نعمته كما يجب عليكم {رحيم} يعني بكم حيث وسع عليكم النعم، ولم يقطعها عنكم بسبب التقصير، والمعاصي {والله يعلم ما تسرّون وما تعلنون} يعني أن الكفار مع كفرهم كانوا يسرون أشياء. وهو ما كانوا يمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما يعلنون يعني، وما يظهرون من إيذائه فأخبرهم الله عز وجل أنه عالم بكل أحوالهم سرها وعلانيتها لا تخفى عليه خافية وإن دقت وخفيت، وقيل: إن الله سبحانه تعالى لما ذكر الأصنام وذكر عجزها في الآية المتقدمة ذكر في هذه الآية أن الإله الذي يستحق العبادة، يجب أن يكون عالماً بكل المعلومات سرها وعلانيتها، وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تستحق العبادة ثم وصف الله هذه الأصنام بصفات فقال تعالى: {والذين تدعون من دون الله} يعني الأصنام التي تدعونها آلهة من دون الله {لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون} فإن قلت: قوله سبحانه وتعالى في الآية المتقدمة أفمن يخلق كمن لا يخلق، يدل على أن هذه الأصنام لا تخلق شيئاً فقوله سبحانه وتعالى: {لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون} هذا هو نفس المعنى المذكور في تلك الآية فما فائدة التكرار؟ قلت: فائدته أن المعنى المذكور في الآية المتقدمة أنهم لا يخلقون شيئاً فقط والمذكور في هذه الآية أنهم لا يخلقون شيئاً وإنهم مخلوقون كغيرهم، فكان هذا زيادة في المعنى وهو فائدة التكرار {أموات} أي جمادات ميتة لا حياة فيها {غير أحياء} كغيرها، والمعنى لو كانت هذه الأصنام آلهة كما تزعمون لكانت أحياء غير جائز عليها الموت لأن الإله الذي يستحق أن يعبد هو الحي الذي لا يموت وهذه أموات غير أحياء، فلا تستحق العبادة فمن عبد ها فقد وضع العبادة في غير موضعها.
وقوله: {وما يشعرون} يعني هذه الأصنام {أيان يبعثون} يعني متى يبعثون وفيه دليل على أن الأصنام تجعل فيها الحياة، وتبعث يوم القيامة حتى تتبرأ من عابديها. وقيل: معناها ما يدري الكفار الذين عبد وا الأصنام متى يبعثون. قوله سبحانه وتعالى: {إلهكم إله واحد} يعني أن الذي يستحق العبادة هو إله واحد، وهذه أصنام متعددة فكيف تستحق العبادة {فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة} يعني جاحدة لهذا المعنى {وهم مستكبرون} يعني عن اتباع الحق لأن الحق إذا تبين كان تركه تكبراً {لا جرم} يعني حقاً {أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين} يعني عن اتباع الحق.
(م) عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً وفعله حسناً قال: «إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق، وغمط الناس» قوله بطر الحق هو أن يجعل ما جعله الله حقاً من توحيده، وعبادته باطلاً وهذا على قول من جعل أصل البطر من الباطل، ومن جعله من الحيرة فمعناه يتحير عند سماء الحق فلا يقبله، ولا يجعله حقاً، وقيل: البطر التكبر يعني أنه يتكبر عند سماع الحق فلا يقبله، وقوله: وغمط الناس يقال: غمطت حق فلان إذا احتقرته ولم تره شيئاً وكذا معنى غمصته أي انتقصت به وازدريته.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7